
الحسانية هي بنتُ الفصحى والصنهاجية. وثمة خلافٌ هل هو زواج سفاح أم تسرِّي. فأما الصنهاجية فهي أوديب، الذي قتله البيضان. وأما الفصحى فهي شدّاد، الذي يُريدُ عنترة اعترافه. ولقد استطعتُ إلى حدِّ الآن النجاة في عالم الحسانية، إذْ رقّعتُها بالفُصحى. وهكذا سترتُ جهلي بعِلمي، وهو قليل. فرُبّ قليل يحجُبُ كثيراً، كالشجرة التي تحجب الغابة. ولقد دفعتُ من حضريَتي ثمن عدم بداوتي. ولكن لو كانت لي حياةٌ أخرى لبعثتُ نفسي إلى البداوة لاستلهام اللغة الأصيلة (مع أن إنتاج الثقافة التقليدية الحسانية من رقص وأشعار يقومُ اليوم في الحضر أكثر من البدو). بالمناسبة لم يَقُم كلّ هؤلاء الثرثارون إلى اليوم بكتابة معجم معتبر للحسانية. وهي تُنقَصُ من أطرافِها، بالموات، بالنسيان. ويبدو أن الشعراء والمُعجميين مشغولون بالذبح عن تعجيم هذه اللهجة الجميلة.
استئناسُ الحسّانية من الفُصحى استئاسٌ لا شعوري ووراثي انقطَع فيه المُستخلصُ عن الأصل ونساه. خُذْ مثلاً: إن الحسانية تقول للمعشوقة "العرّاد". والعرادة الجارية الوكّاس. وكان هبيرة بن عبد مناف يعتبر فرسه عرّاداً ووكّاساً. وكان يقولُ فيها:
أدرك إبطاء العَرادَة كلْمُها
وقد جعلتني من خُزيمة إصبعا
والزّفال بالحسانية هي الثُّفَال: وهي العجز بالفصحى؛ وهو من الثقل والبطء. ويُقال "أغراه ثُفاله" إذا كانت ثقيلة العجيزة. وتتحدّثُ الحسانية عن الوخش والوبش والقِرمش من الناس: وهم الحثالة بالفصحى. ويُقالُ قِرمشٌ من الناس: أي أراذِلٌ منهم. ومن لا خيرَ فيهم.
وتقول العربية القديمة "إذا سُرّك أن تكذب فأبعِد شاهِدك" ويقول البيضان : "اللي لاي يكذب يبعّد اشهودو".
والحِلةّ، وهي عشّ الإمارة بآدرار وبتكَانت، وهي بالفصحى "جماعة البيوت". والحِّلُ هو الإقامة. ويقول حرِّيْ:
وأسمرَ مربوعٌ رضاه ابن عاذب
فأعطى ولم ينظر بيعَ حِــــــلال
أي: بيعَ البيوت.
ويقولُ البيضان "الرجّالة" وهم بالفصحى المُشاة. وهم مُحتضِنو قيّم الرجولة في الحرب. وهم الحابلون، عكس النابلين. فالنابل جبان؛ يقتلُ عن بُعد. أما الحابل فيجري مع الدابة في الوغى. وهو "رجلُ". والرّجالة في الحسانية من "الرِجلي" أو "الرجاجيل" باللهجات الخليجية (مع أن الحسانية تميّزُ بين "الرجّالة" و"ارجيجلة" (ما قد يوحي أن المفهوم ليس بالضرورة مُجندَراً، وإنما هو مثالي وأنموذجي. و"الرجلي" هم القوم أو، بستييق، علية القوم والمجالسيون؛ اما "الرجالة" فأولئك هم الناس.
والرزّام بالفصحى هو الذي سقط فلا يتحرّك؛ وبالحسانية يتمّ الحديث عن "يَ الرزّام اتكلّم". فهو الذي أسقِطَ في يده، حجةً أو إعياءً أو عِشقاً. وفي المغاني هو أحياناً العاشق العُذري، المنتشي، ولكن المُسكَت، بالحبّْ.
وتقول الحسانية يصطبِح. وهي كلمة فصيحة معناه يتناول فطوره. والترقوة فُصحى. والنفساء فُصحى. ويسخر المحظريون االبيضان من جماعة اعتقدَت أنّ "ونهى النفسَ عن الهوى" تعني نهي "النفساء" عن الهواء. والنكتة باقية. ولكن النفساء بالفُصحى، كما بالحسانية، هي الحامل. ومنه قول الرّاجِز:
ربّ شريب ذي حُساس
ليس بزَيّان ولا مُواس
عطشان يمشي مشية النِّفاس.
قلتُ: أما أن الحسانية من الفُصحى فها من المرسلات عُرفاً. وإنما هدف النشرية الإمتاع والمؤانسة. وقد قيل هذا التلطيف لِلُئماء المجلس ومُكدِّري الصفو من قِرمش الجلساء ومُحرِّفي الكلام. وقد قالَ في أشباهِهم ولد مُحمدي:
مذَ من وخشِِ
فينَ يتمشَ
ماهو امخلي شِ
ولاهو امخلي شَ