
مع دخول المسجد الأقصى المبارك في موسم الاقتحامات الأطول والأعتى خلال العام، والذي بدأ برأس السنة العبرية، مروراً بيوم الغفران وانتهاء بالموسم الأخطر، عيد العُرش، برزت قضية التغطية الإعلامية لما يجري في المسجد كأحد أبرز التحديات التي تواجه الإعلام العربي والإسلامي.
المتابع لأحوال المسجد الأقصى لاحظ التراجع الكبير في عدد الصور والفيديوهات التي توثق الاقتحامات وما تقوم به جماعات المعبد المتطرفة داخل المسجد يومياً. في العديد من الحالات، كانت جميع الصور والفيديوهات التي وثقت اقتحامات رأس السنة العبرية ويوم الغفران مأخوذة من خارج المسجد، بل من خارج البلدة القديمة، مثل الصور الملتقطة من فوق جبل الزيتون، على بعد حوالي 500 متر عن أسوار المسجد الأقصى الشرقية.
هذه الزاوية لا تغطي إلا مساحة صغيرة أمام الجامع القبلي، ولا تعكس ما يجري خلال تجمع المستوطنين في الجهة الشرقية أو أثناء أداء طقوسهم في الجهة الشمالية أو الغربية للمسجد. أما الصور والفيديوهات التي أظهرت أفعال الجماعات المتطرفة فكانت غالباً من مصادر هذه الجماعات نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد نشرها للتفاخر بما أنجزوه خلال الاقتحامات.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك كان نفخ بوق رأس السنة العبري داخل المسجد، حيث غاب هذا الحدث عن التغطيات الرسمية، ولم توثق سوى مرات قليلة من قبل بعض المصلين، بينما نشرت جماعة متطرفة فيديو يظهر المستوطن ينفخ البوق قبل إخراجه على يد شرطة الاحتلال. واحتفى الحاخام المتطرف يهودا غليك بهذه العملية، واعتبرها "انتصاراً رمزياً" في معركة السيطرة الدينية على المكان.
خلال العام الأخير، شددت قوات الاحتلال قبضتها على المسجد الأقصى بشكل غير مسبوق، متدخلة في كل صغيرة وكبيرة، حتى في عمل دائرة الأوقاف الإسلامية، مثل منع الإشارة إلى غزة في خطب الجمعة، مع تهديد بالإبعاد عن المسجد. كما شملت الإجراءات تضييقاً ممنهجاً على الصحفيين والمصورين، إذ أصبح كثير منهم عرضة للاستدعاء أو الإبعاد أو مصادرة الهواتف والكاميرات عند محاولتهم توثيق أي حدث، بل تم تفتيش هواتف المصلين للتأكد من عدم التقاط صور أو فيديوهات.
يشير العديد من الصحفيين والناشطين إلى أن قوات الاحتلال تمنع دخول الإعلاميين إلى باحات المسجد قبل الاقتحامات بدقائق، أو تمنعهم من الدخول أصلاً، مما يجعل نقل الصورة من الداخل شبه مستحيل. ويهدف هذا الإخلاء المسبق إلى تغييب الصورة الحقيقية لما يحدث، بحيث تُعرض لاحقاً روايات إسرائيلية جاهزة تُسوق على أنها "زيارة منظمة" أو "صلاة محدودة".
غياب العدسة الميدانية يضعف قدرة الرأي العام على متابعة ما يجري، ويجعل القدس مجرد عنوان عابر في نشرات الأخبار، بينما تتواصل عمليات فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد بهدوء وصمت. كان المشهد في السابق مفعماً بأصوات التكبير والاحتجاج، أما اليوم فهو صامت إلا من بيانات مقتضبة تصدر عن دائرة الأوقاف الإسلامية أو وزارة الخارجية الأردنية.
ما يجري ليس صدفة، بل سياسة طويلة المدى تهدف إلى سلخ المسجد الأقصى عن حضوره الإعلامي. المعركة على المسجد ليست مجرد حجارة ومبانٍ، بل معركة رواية وصورة وذاكرة؛ فصاحب القدرة على نقل الصورة يملك القدرة على تشكيل الرواية.
كما أن وسائل التواصل الاجتماعي، التي شكلت في السابق أداة لنشر ما يجري ومقاومة التعتيم الإسرائيلي، أصبحت الآن خاضعة لرقابة خفية، حيث تُحجب أو تُقلل درجة ظهور المقاطع التي توثق الاقتحامات أو الاعتداءات، بحجة "مخالفة معايير المجتمع".
المرابطون والناشطون المقدسيون الذين يوثقون لحظات الاقتحام أصبحوا خط الدفاع الأول عن الذاكرة البصرية للمسجد، لكن جهودهم الفردية تفتقد منظومة دعم إعلامي ومؤسسي تحميها.
إن التعتيم الإعلامي أصبح أداة رئيسة في إدارة المشهد، فحين لا تُرى الانتهاكات، لا يُحاسب أحد، وحين تغيب الصورة، يغيب معها الإحساس بخطورة ما يجري. الاحتلال يركز على التحكم بالعدسات أكثر من الأبواب.
هنا يأتي دور الجهات الرسمية في المسجد الأقصى، وتحديداً دائرة الأوقاف الإسلامية الأردنية، التي يجب أن تمارس حقها القانوني والسياسي الكامل في إدارة شؤون المسجد، بما في ذلك مراقبة كافة أرجائه ونشر حراسه لتوثيق ونشر العدوان الواقع فيه. التهاون في هذا الأمر قد يؤدي إلى طمس هوية الأقصى وفتح الطريق أمام مشروع المعبد من الناحية الرمزية والمادية تحت ستار الحصار والتعتيم.
